الجمعة، 2 يونيو 2017

عندما تتلاشى الأوهام #قصة .

أتى اليوم المنتظر أخيراً ، انه يوم التخرج الذي لطالما انتظرناه بفرحته ، قاعة الحفل أنيقة و المقاعد في انتظامٍ حولها ، الأمهات يجلسن في مقاعد الحضور المطرزة بألوان الفرح ، وهاهي والدتي ووالدة صديقتي العزيزة تلوحان لي ، عتبة المسرح العاليةٌ تحمل طاولةً عليها هدايا الحفل ، أستاذتي الحبيبة مريم تتحرك بسرعة وتنادي علينا لننتظم وكلما وقعت عيناها علي ابتسمت ابتسامتها الحنونة ، أخذت أتجول بنظري حول المكان و السعادة تغمرني. وقعَ نظرِي على صديقتي بلباس التخرج وهي تتقدم إلي ، أنا سعيدة لأننا نتشارك اليوم ذات الفرح ، أقبلت إلي فسرحت ببالي بعيداً نحو بدايتنا قبل عامين.. -تفضلي بالدخول . هكذا بادرتني أستاذة مريم المرشدة الطلابية بعدما استدعتني إلى غرفتها ، ومازال صوتها الرزين في أذني وهي تقول لي : -سمر أنا لدي مهمة لك بما انكِ رئيسة صفك، اعتمد عليك في انجازها بعد الله . فرددت عليها : لقد أيقظت فضولي بكلامك ، اخبريني بالموضوع معلمتي . قلتها بحماس وترقب ، لن أنسى تردد أستاذتي العزيزة مريم وهي تقول لي على مضض : -أنت تعرفين الفتاة المنتقلة إلى فصلك مؤخراً ، اسمها لؤلؤة . -نعم اعرفها معلمتي ، تلك التي تجلس في آخر الفصل دون أن تتحدث ، ولا نحاول فتح مجالٍ للحديث معها إلا أقفلته في وجهنا بلا اهتمام .: إذا ماذا بها ؟ -حسناً اسمعيني هنا يا سمر ، أنا اتفقت مع أستاذة سهام على أن تجعلكما في فريق عمل واحد .. -لكن..! قلتها في ذلك الوقت متذمرةً، مقاطعةً حديث أستاذة مريم فقالت لي : انتظريني حتى أُكمل . لقد كانت لؤلؤة من أفضل طالبات مدرستها في مرحلتي المتوسطة و الابتدائية ، معروفةٌ برزانة تفكيرها و سعة اطلاعها وحبها لقراءة الكتب أياً كان نوعها.. لكن شاء الله إن تلتقي بطالبة في سنتها الثانوية الأولى وقد جعلتها على ما هي عليه بسبب اصطدامهما بالخطأ أثناء انهماكها في قراءة كتاب ، الذي أدى إلى انسكاب مشروب الفتاة الأُخرى أخرى وسخرية الطالبات منها ، فوضعت تلك الفتاة لؤلؤة في بالها وتربصت لها مدة عامٍ كامل . تتالت سلسلة المضايقات ، مستغلة تلك الفتاة فيها أوقات انشغال المعلمات وعدم وجود زميلاتها حيث ابتدأت بسرقة مصروفها ، ثم بإسقاطها وسط الممر أمام مرأى الطالبات لتتقدم معتذرة .. فتحكم خطتها وتعنفها لفظياً بطريقة مستفزة غير مباشرة ، ثم بتمزيق كتبها ، حتى تطور الوضع إلى اعتداءات جسدية بالضرب واللكم في كل فرصة تتاح لها حيث تترصدها في أوقات البرامج والانتقالات ما بين الحصص .. وكأنها تلك الفتاة قد وجدت التسلية بضعفها وإذلالها. حاولت لؤلؤة بهدوء إبلاغ المدرسة بالبحث عن حلٍ لها ، فكان كل إجراءٍ يُنفذ من قِبلها بمثابة دافعٍ أقوى لتزداد ترصدا وإيذاء . حاولت تجنب تلك الفتاة لكن الوضع قد زاد عن حده ولعل تهاونها في إيجاد حل جذري وعدم وضعها حداً بينهما كان هو السبب ، فتحول نتاج هذا الصمت إلى خوف و نفور من المدرسة . فكانت لؤلؤة تشعر بالإعياء كلما استعدت للذهاب ، وتقابل أسئلة أهلها فيما يتعلق بالمدرسة بصمت . لاحظت والدتها ما طرأ على ابنتها من تغير وحاولت معرفة السبب ولكن لؤلؤة لم تبدي تجاوباً معها .. إلى أن أتى يوم اتصلت فيه المدرسة على والدتها تطلب منها الحضور لإصابة لؤلؤة بحالة إغماء . ذهبت الأم إلى المدرسة مسرعة فوجدتها في حالة يُرثى لها وثوبها المدرسي ملطخ ببقعٍ حمراء ، حالما استفسرت الأم عن هذا لم تستطع إحدى المعلمات إجابتها عدا معلمة قد قالت برثاءٍ لها : كنت قد رأيت لؤلؤة تسير في المدرسة وقد جلست على بقع طلاءٍ حمراء بدت موضوعةً بعمد ، فلم تتحمل سخرية الطالبات منها و خصوصاً في شيءٍ مريبٍ كهذا فسقطت في اغماءة من حدة الموقف ، حاولت إيقاف ضحكاتهن وتهكمهن .. لكنكِ تعرفين طبيعة الفتيات في هذا العمر .. فكرت الأم في الكثير من الحلول ووعدتها إدارة المدرسة بعمل تحقيق وإيقاع عقوبات نظامية على من سيثبت عليها السلوك لكن والدة لؤلؤة وجدت أن ابنتها لن تستفيد من هذه الإجراءات مادامت نفس الطالبات موجودات ، فتوصلت إلى حلٍ أخير .. قدمت الأم طلب نقل ابنتها من المدرسة وألحت في قبول الطلب .. فتمت إجراءات نقلها على عجل و انتقلت لؤلؤة إلى هنا.. تغير حال لؤلؤة بعدها كما رأيتي في الشهر الأول من التحاقها بالمدرسة ، وهو ذاته حالها في المنزل : باتت تمسي أيامها لا تنوي شيئاً أو تلوي إلى شيء . تنام و تستيقظ ، تأتي بتململ إلى المدرسة ثم تعود لتكمل نومها ، لا جديد في حياتها ، إن جاعت استيقظت لتأكل أي شيء ثم تعود للنوم حتى الصباح .. أصبح لديها رِهاب اجتماعي ، صارت تخشى التجمعات ولا تفاتح أحدا بحديث .. أصبحت نظرتها للحياةِ مشوشة -وهذا إن كانت لا تزال تنظر إلى الحياة- ..وقد أتت الأم قبل عدة أيامٍ للقائي و طلبت المساعدة فأخبرتها أن لدي من تستطيع بإذن الله حل المشكلة واستأذنتها أن اخبرها بكامل الأحداث وأنا أعنيك أنتِ بكلامي وها قد جاء دوري الآن في طلبها منك . لم تكد أستاذة مريم تنهي حديثها إلا وقد انفجرت باكية دون شعور : لماذا ؟ هل يوجد احد يحمل في قلبه هذا الكم الهائل من الحقد والكراهية ؟ لا اكاد اصدق .. مازال شعور القشعريرة وبكائي ماثلا إمامي وأستاذة مريم تربت علي لا ... لا ..... يا سمر أنا لم اذكر لك ما حدث كي تبكي ولكن لتساعديني وتدركي حجم المشكلة التي تعرضت لها زميلتك فانا أثق برجاحة عقلك وحسن تصرفك وإلا لما كنت استعنت بك وصارحتك بوضعها ، فأنت مصدر ثقتي يا سمر لا تدعيني اندم على هذا الإجراء . لا يا أستاذة مريم لن تندمي بإذن الله .. قلتها وأنا امسح دموعي .. أنا معك .. و مر هذا اللقاء أمامي كوميض ، وصلت لؤلؤة إلي وتلاشت الأطياف لتقول لي : مابك ؟ قلت خريجة . وأخذنا نضحك ..... نادت إحدى الطالبات لؤلؤة ليعود شريط الذكريات إلى اليوم الدراسي التالي بعد اجتماعي مع أستاذة مريم ، وعند بدء حصة أستاذة سهام طلبت منا الانقسام إلى مجموعات مكونة من طالبتين ، لنقوم بعمل بحث صغير حول التطوع ، كانت لؤلؤة جالسةً في زاوية الفصل تنتظر الفتاة الأخيرة التي ستبقى بدون شريكة لتتشارك معها ، دون نية للمشاركة في العمل .وهكذا انتهى تكوين المجموعات وبقيت أنا كما اتفقت أستاذة مريم وأستاذة سهام ، ( وكأن الحدث اليوم ) وأنا اتجه إلى لؤلؤة رافعة يدي للسلام.. رمت هذه الذكرى على ملامحي ابتسامة تلقائية ، أيقظتني منها لؤلؤة قائلة : هيا ، تعالي لتجلسي بجواري فالحفل على وشك ان يبدأ ! لؤلؤة –وقلت بسعادة- لا لا تسحبي يدي هكذا ، انظري لقد تبعثر شعري في الهواء و كدت تسقطين قبعتي ، هيا لنجلس .. ثم ابتدأ الحفل ، وأنا انظر لفرحتها . ودون وعي مني سرحت مرة أخرى ، لأتذكر أحداث عامين كاملين مرا سريعا وهذه المبتسمة كيف كانت تنفر مني تارةً وتستجيب لإنجاز المشروع تارة أخرى ، وكيف كنت اردعها عن نفورها بالتشبث أكثر ، لتظهر أمامي زيارتها الأُولى لمنزلي و نقاشنا الحاد فيه ، وكيف ساعدتها على إدراك ضعفها و هروبها ، وكيف اتصلت بوالدتها طالبة العودة ومحاولاتي لإقناع لؤلؤة بالبقاء ، لتتصل بي بعد ذهابها معتذرة قائلة لقد فكرت مليا في كلامك وأنا بحاجة لك فهل تساعديني ؟؟؟ وكيف قضينا تلك الليلة في الحديث بالهاتف إلى الساعة الحادية عشر والنصف مساء وأنا أؤكد عليها بضرورة مجابهة الواقع . وكيف تلاشى ضباب الضعف عنها ، وتبددت أوهام لؤلؤة بعد تمردها الطويل ، فصارت فتاةً أقوى . وكيف شَعرتُ بالانجاز والفرح وأنا أراها تعود للشخصية التي أخبرتني عنها أستاذة مريم بل أقوى وأكثر ثقة من ذي قبل ، صارت المعلمات يثنين على اجتهادها وتُضرب في تفوقها الأمثال . سمر ، ما بك أين ذهب بالك ؟ استفقت مجدداً ، وأنا أتأمل الوجه البشوش الذي ينظر إلي ، ما كنت لأتوقع سابقاً أن تمتلك لؤلؤة هذا الوجه بمثل هذه التعابير . وبحركة لاشعورية وجدتني احتضن لؤلؤة ذات غفلةٍ منها و أقول : أتعلمين أنني جِد محظوظةٍ بمعرِفتك؟ ابتسمت لؤلؤة وهي تبادلني العناق : أتعلمين أيضاً أنكِ هبة من الله لي ، اشعر بالامتنان لوجودِكِ في حياتي..

هناك تعليق واحد:

  1. قد يكون تعليقي بسيط لكن القصه تحدث كثيرا على الفرد أن يستعين بالله ويستمر قوته من الله فالقوه عندما يتنازل عنها طرف يأخذها الآخر ولاكن بحكمه ليس انتقام
    إلى الكرة أسماء كلمات رائعة ❤👍

    ردحذف