الأحد، 22 أغسطس 2021

مؤامراتُ الحياة.

 


مؤامرات الحياة.

***

سرحتُ مجدداً، إنها المرة السابعة التي أحدق فيها إلى المرآة، وكأني أرى في انعكاسي شيئاً يشبه الأُنسَ في أظلالِ هذه الغربة. لم أنطق حرفاً منذ شهرين، عدى في تلك المرات التي لم تتجاوز ١٠ دقائق مكالماتٍ يطمئِن بها والدايَّ علي. محبوسٌ في شقتي الصغيرة التي لا تحتوي على فرن، قاصداً هاتفيَّ دائماً حينما أجوع، وحتى أوقات تناولي للطعام باتَ عليَّ أن أقيدها فيما يتناسب مع أوقات حظر التجول الحالية.

منذ بدأت انعزالي وأنا أرى الأحداث الجارية بأنانية، فحتى وباءُ كورونا أراهُ مُرسلاً لتنبيهي وحدي؛ ونظريات المؤامرة حولها تبدو مُحاكةً حولي وبات عليَّ التفكير بخطة مضادة حتى لا أقع في فخ مؤامرتهم بلا مخرج.

كانت ممرات المسكن الطلابي خاليةٌ من الطلاب؛ بعضٌ منهم رجِع إلى منزله بعد استلامهم لتصاريح مغادرة، وبعضهم بقي منعزلاً في شقته كما أفعل ولم يخرج. شعرتُ بالملل الشديد وقررتُ الجلوس أمام باب شقتي بالخارج لأتأمل اللوحات على جدار الممر. "لما تُصِّر على البقاءٍ خارجاً كُل ليلة يا سمير؟" قال الحارس. شعرتُ برغبة في الإجابة، فقد خشيتُ أن أفقد صوتي إذا لم أنطق حرفاً لمدةٍ أطول، غير أنه لم يمنحني الفرصة حيث غادَر بعد أن أَكمَل "عُد إلى غرفتك حتى انتهاء حظر التجول هنا". عُدت إلى غرفتي حاقداً عليه، فهو لم يكتفي بتطبيق حظر تجول داخل المسكن بأمرٍ من الإدارة فحسب بل وحرمني الإجابةَ عليه أيضاً؛ إنها مؤامرةٌ أُخرى تُحاكُ ضدِّي.


***

استيقظُ هذه المرة على اتصالٍ مبكِّر، لم أخّل أن هناكَ شخصٌ سيسأل عني خلال هذه الأزمة بخلافِ والديّ؛ أجيبُ وإذا بالمتصل يطمئن عليَّ وعلى صحتي، فأُجيبُ كاذباً أنني بخير وأنِّي لست بحاجة إلى دواءٍ جديد -مذ أن دوائي لم ينفذ بسبب عدم التزامي بتناوله- إنها مؤامرةٌ أخرى لن أقع في فخها. انهيت المكالمة.

ارتديت ملابسي وخرجت إلى المطعم القريب. بعد وصولي سمعتُ عدةً يتهامسون "إنه هو مجدداً.."، "لقد تسبب بضجة آخر مرةٍ رأيناهُ فيها"، "كُن حذراً منه"، "لما هو هنا!؟"، ومزيدٌ من الهمسات؛ يبدو أنهم يخططون لمؤامرةٍ أُخرى، لكنني سأتظاهر بالانخداع ثم أكشفهم وأهرب لكن بعد استلام وجبتي، فهيهاتٌ لن أجعل مؤامرة تجوِيعي تعمل.

لحظتُ أنني على غير العادة تحدثت كثيراً اليوم، غير أني قد علمتُ أيضاً أنها المؤامرة التي بدأها ذلك الطبيب المدَّعي على الهاتف قائلاً لي كعادته أنِّي مصابٌ بالذهان؛ أعلم سلفاً أنه يريد قتلي بسمومه بادعائه أنها أدوية، لكن خطته لن تنجح بعد اليوم فقد كشفته على حقيقته، وسأكشف هؤلاء الآن.


***

لم أستطع مصافحة فارس هذه المرة الذي عاد من منزله -بعدما طرده والداه كعادتهما-، حيث أنِّي حينما أقبلت عليه منعوني من الاقتراب قائلين إنه سيُعزل ل14 يوماً؛ لم أظن قبلها يوماً أني سأكرهُ مؤامرةً بهذا الكُره. أتصلَ علي والداي بعد عودتي إلى الشقة، مقاطعينَ فكرة هربي وقت حظر التجول والولوجِ إلى شقة فارس، غير أنهم هذهِ المرة اتصلوا علي بمكالمةِ فيديو. واضطررت إلى تناول السم هذه المرة أمامهم حتى لا أُعاقب.

أتى موعد الحظر، انتظرت قليلاً حتى يهدأ المكان ثم خرجت متسللاً إلى شقة فارس، وجدت الباب مفتوحاً فولجت إلى الداخل، غير أني لم أجد إلا شقةً فارغة إلا من الغبار. "من هناك!؟" قال الحارس بينما ينير المكان ثم أكمل بعدما رآني "انتَ ثانيةً؟ عُد إلى شقتك". لم أفعل كما قال.

ضللت أرمقه بنظراتي، يبدو أني أغضبته حيث رفع نبرته علي قائلاً "إن لم يكن لديك شيء لتفعله فعد إلى غرفتك!". رميت بنظري حول الشقة ثم سألته عن مكان فارس، فأجاب "لا يوجد شخصٌ هنا اسمه فارس". نظرت إليه بحيرة واندهاش ثم قلت مجدداً "لكنه يدرس في الجامعة ويسكن هنا منذ ثلاثة سنوات!". نظر إليَّ الحارس بازدراء ثم قال لي "هذا المكان هو مصحة نفسية وليس مسكن طلاب، هيا فالتعد الآن".

وقفت في مكاني بصدمة، اختفت الكلمات من رأسي وأظلم كل شيءٍ أمامَ عيناي؛ تساءلت عن حقيقة الأحداث الماضية، لم أعرف أيُّها الحقيقي والزائف، ثم بتُّ أعرف الحقيقة بعد ضياعٍ طويل. قاطع تفكيري الحارس وهو يسحبني خارج الشقة حتى باب شقتي ثم توعَّد فيّ العقاب إن لم أدخل.

***

نظرتُ في المرآة داخل شقتي، هذه أول مرة أحدق فيها إلى نفسي اليوم، هناك شيء مما تعكسه المرآة لا يشبهني؛ لم أعد قادراً على معرفة من أستطيع التصديق. أوالدايَّ الذين أحضروني هنا قائلين إن هذا المكان مسكن طلاب جامعة؟ أم الطبيب الذي يقول أني مصاب بالذهان جراء صدمة نفسية بسبب التعذيب والإهمال؟ أحارس الأمن؟ أم فارس الذي كان وهماً من صنع الذهان؟ أو أصدِّق المرآة التي أواجهها الآن؟ إن الذهان هو المؤامرة الفعلية.

قررت أُن أواجهَ الحقيقة، أن أبتعد عن هذه العزلة المقيَّدةِ بهم، أن أنعزل في مكانٍ آخر حيث لا تصلني أية أمورٍ قد تبدو كمؤامرة، سأهرب من كل ما يربطني بأوهامي، سأبقى وحيداً حتى لا أصاب بمؤامراتِ كورونا أو تصيبني مؤامراتُ الحياة.

*النهاية*.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق