الأربعاء، 11 يناير 2017

أعزوفة حُب #قصة .

كانت تُحبِه ، تهوى عزفَه عندَ زاوية المقهى شبهَ المضيئة بضوءِ مصباحها المكسور ، حيثُ يُغطِي نِصفها ستارٌ أحمر ممزقُ ، متدلٍ ذو نقوشٍ ذهبية غطتُها بقايا الغُبارِ العالقة بين ثناياها .
جالسٌ على الأريكة ، يعزِف أقطوعةً فريدة ذاتَ نغماتٍ متكرِرة ، يتردَدُ صداها في المقهى ؛ حيثُ لا ضجيجَ يُقاطِع ضجيجهُ ولا صوت ، من الساعة الحادية عشرة ليلاً حتى منتصف الليل كل يوم .
بدايةُ حبها ذاك حينَ أرادت ذاتَ مرةٍ أن تحتسي قهوةً سوداء بينما تعمل على بحثِها في وقتٍ متأخر ، و بسبب ضيق الوقت واستعجالها لبدء العمل دخلت آنذاك أقربَ مقهى إلى مقرِ عملها -والذي بات أكثر عتمة- .
طلبت حينها كوب قهوتها و شرعت في بدء العمل حتى قاطع حبل تفكيرها صوت العزف ..
سَحَرَها بجمالِه ، عيناهُ الزرقاوتان ووجههِ الشاحب ، لم يكن شاحباً حقاً بل ما تراءى لها خلال الضوء الخافت .
شفاهه المتشققة ، شعره المتطاير و المبتذل ، كل هذه اوصافٌ ذميمة فيه عدى أنها قد عاكست تماماً لباسهُ الفاخِر .. فكان كأميرٍ مُتشرِدٍ في عينيها .
في تلك الليلة حين سمعت عزفه لم تقاطعه ، رغم إلحاح قلبِها المستمر بسؤاله عن اسمه أو طلب مواعدتِه حتى ، ولطالما انتظرت إنتهاءه لتلك النية ، لكنها وكلما حان الوقت ما تستطيع فعل شيئ سوى التأمّل فيه بمكانها دون حراك .

وفي ذات يومٍ في منتصف العزف ، اعلنت المصابيح انقضاء أجلها فانطفأت ، انطفأت جميعها بلا استثناء ، وكانت هي تخَافُ من العتمة المُطلقة ..
اخذت تصرخ فزعاً ، تصرخ بلا توقف ، تصرخ دونَ أن يجيبها أحد ، كانت تطلُب اعادة الاضواء فلا صوت استجابة : حتى صوت العزِف انقطع انذاك .
وفي لمح العمى -وليس البصر فلا رؤية في الظلام- احتضنها جسمٌ ما ، كان عظيماً..
كانت تتحسسه اثناء نوبةِ صراخِها ، لم تُفزَع منه ، كانت تعرف تفاصِيل جسده ، يدان كثيفتا الشعر و ندبة على إحداها ، عرض جسده اثناء احتوائه لها ، كل شيء بدا لها مألوفاً ، هدأ صوتُها و بدأ بالانخفاض..
تشبثت باليدين التي تقيدانِها ، تشبثت جيداً ، لم تزل بذلِك الوضع حتى عادَ ضوءُ أحدِ المصابيح -وكأنه قرر إكمال المقاومة ليشهدَ الحَدث- ، فحينما عاد إلتفتت خلفها ، رأت الجاثي خلفها ، امير قلبِها المتشرِد..
افلتته و ولت نحو المنزِل ، بقيت بعيدةً عن ذلِك المقهى عدةَ اسابيع ، و حالما عادت وجدت أن جميع المصابِيح تعمل ، وأن المكان تغير فصارَ شبه جديد .
- عفواً ، اين الشاب الذي كان يجلس في تلك الزاوية كل يوم؟
سألت وهي تشير نحو الزاوية و بالُها مشغولٌ به ، وكل لحظات ذلك اليوم تمر في بالها ..
- لقد ترك العمل قبل عدة ايام بعدما دفعَ الكثير لنا لتجديد المحل ، قال انه سوف يلتحق بنادٍ للموسيقى و سيعود بعد ثلاثةِ شهُور .
شعرت بلوعةِ ما فَعَلت ، لم تسألهُ عن اسمه ولم تشكره أو تحادثهُ بشيء ، لكنها سوفَ تفعل مادام الأمل موجوداً بشكلٍ بسيط..
عمِلت في ذلك المقهى بعدما استقالت من مكتب العمل ، كان عُذرها انها تملك عملاً مصيرياً يجب عليها انهاؤه ، ضلت تترقب عودتَهُ بشغف ، تراها تنظر نحو البابِ حيناً و إلى زاويتهِ حيناً أُخرى ، حتى مرّت الشهُور الثلاثة .
عاد حينها أقل ضخامةً من ذي قبل ، بنفس الاناقة و نفس الملامح .
توجهّت إليه حالما رأته ، صافحته بحرارة وكادت أن تحتضنه ، لكنه لم يرّد عليها ولم يتحدث .
تسائلت في نفسها عن هدوئِه ، لمحتهُ يُخرج دفتراً من حقيبته و قلماً ، اخذ يكتُب ..
- لا أستطيع التحدث ، فأنا أبكم .
- لكنني افهم حديثكِ .
بعدها قرأت كلماته تلك لم تمنع نفسها ، احتضنتهُ بكل ما لديها و قالت في همس حُبٍ وعيناها تتلألئ بالدموع .
- سوفَ أكونُ منذ اليوم صوتك ، فقط اعزِف لي كُل يوم..
بادلها العناق هذه المرة ، ظلّا على تِلك الحالة لحظاتٍ عديدة ، حتى افلتَا بعضهُما ، حينها كتب على ورقةٍ أُخرى لها :
- انا احببتك منذ البداية ، كنت أعزُف للا شيء حتى وجدتِك شغوفةً بما أعزِف ، و تلك الليلة التي صرختِ فيها لم استطِع منع نفسي من احتضانِك ففاضَ منّي الحُب وخفت ألّا تعذُرِيني .. أنا احبك.

- انا احببتك منذ البدايةِ أيضاً ، حفظتُك وتفاصِيلَك حتى ما فَزِعتُك في الظلام ، لا أعذارَ في الحُب طالما هُو مُتبَادَل .. أحبك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق